تناول تقرير لمركز (المجلس الأطلسي Atlantic Council) للدراسات في واشنطن أجواء البيئة الانتخابية التي يعيشها العراق وسط تحولات وتغيرات إقليمية، حيث تعيش الكتل السياسية المتنافسة من شيعة وسنة انقسامات في الحفاظ على المصالح وصنع القرارات المستقبلية، مع مواجهة تحدي الموازنة بين رضا إيران وتجنّب استفزاز الولايات المتحدة، مؤكِّدًا أن مقاطعة الصدر، الذي يمتلك آلاف الأصوات، قد تغيّر من موازين القوة في بغداد والمدن الجنوبية، مصحوبة بمخاوف من تراجع الهيمنة الشيعية في البرلمان.
وأشار التقرير إلى أن الانتخابات السابقة التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2021 قد أتت بالعديد من المفاجآت عقب احتجاجات 2019، تمثّلت بقانون انتخابي جديد بدا أكثر عدلًا وتمثيلًا، وانتصار ساحق لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وظهور مرشحين مستقلين من الشيعة. وستكون الانتخابات المقبلة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر مختلفة، إذ عاد القانون الانتخابي إلى نموذج سابق يُفضِّل الأحزاب الكبرى، وأعلن الصدر مقاطعة الانتخابات، وتضاءلت فرص المرشحين المستقلين.
هناك عناصر ثابتة: ستُجرى الانتخابات وفق خطوط عرقية وطائفية، شيعية وسنية وكردية، وأهمّها سيكون انتخاب المرشحين الشيعة.
ويذكر التقرير أنه بالنسبة للكتل الشيعية ذات الغالبية ضمن الإطار التنسيقي، فإن مقاطعة الصدر ستؤثر على حجم أصواتهم. لكن التنافسات السياسية والمصالح المتناقضة خلقت فجوات كبيرة داخل الإطار التنسيقي في فترة ما قبل الانتخابات، وهي فجوات تهدّد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ومحاولته الحفاظ على السلطة.
يصف السياسيون الشيعة هذه الانتخابات بأنها حاسمة ومصيرية — كما يفعلون عادة في كل موسم انتخابي. بينما قد لا تكون مصيرية بالمعنى الحرفي، إلا أن هذه الانتخابات مهمة نظرًا لتصاعد موجات التغيير في المنطقة، والحاجة إلى أن يقرّر العراق موقعه في المشهد الجديد المتشكِّل.
تركّز الأحزاب الشيعية بشكل خاص على نسبة المشاركة، إذ لا يزال هناك فتور واضح بين الناخبين الشيعة. في انتخابات 2021، بلغ معدل المشاركة الرسمي 40% على المستوى الوطني، لكنه كان أقل في المحافظات الوسطى والجنوبية.
يشير تشكّك الناخبين إلى غياب الثقة في نزاهة وقيمة العملية الانتخابية، وفي السياسيين المرشحين، وفي النظام السياسي ككل. وسط تزايد تقارير تفيد بشراء الأصوات، يطالب العديد من الأوساط الشعبية بمقاطعة الانتخابات للتعبير عن رفضهم لنظام سياسي لا يغيّر وجوهًا أو ممارسات سياسية. يصف الصدر التصويت بأنه بمثابة تأييد لنظام فاسد. من جهة أخرى، يرى المتفائلون أن مقاطعة الانتخابات ستضمن استمرار الوضع الراهن، وأن التغيير — مهما كان بطيئًا — لا يمكن أن يحدث إلا عبر التصويت لمرشحين أفضل.
إذ يُقدَّر أن الصدر يستطيع حشد مئات آلاف الأصوات — وإذا ذهب أنصاره إلى صناديق الاقتراع، يمكنهم قلب موازين الانتخابات في بغداد والمدن الجنوبية. وقد وردت تقارير غير مؤكَّدة بأن زعماء شيعة آخرين حاولوا استمالة الصدر لكسب أصوات أتباعه، إلا أنه لا يوجد مؤشر على نجاح هذه المحاولات.
الانقسامات داخل الكتل
يشير التقرير إلى أنه داخل الإطار التنسيقي هناك العديد من الخلافات التي تشكّل الجدل في هذه الدورة الانتخابية، ويتمحور حول سياسة الحكومة تجاه سوريا وإيران، وإلغاء قانون يتعلق بالحشد الشعبي الذي عارضته الولايات المتحدة بشدّة، وأيضًا المصالح الاقتصادية المتنافسة بين الفصائل الشيعية. وأكّد أن الانقسام الأكبر هو التنافس السياسي بين رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي والسوداني، حيث لم يُخفِ أيٌّ منهما طموحه لقيادة حكومة بغداد ما بعد الانتخابات، في وقت يتوقع المراقبون أن يحصد السوداني أكبر عدد من المقاعد في البرلمان.
المالكي وتحالفه “دولة القانون” ركّزا على عدة نقاط لتقويض ولاية السوداني، صراحة أو ضمنًا. فقد أثاروا مخاوف بشأن عودة البعثيين إلى السلطة عبر الانتخابات، وتم استبعاد المئات من المرشحين وفق قوانين اجتثاث البعث، سواء عن حق أو خطأ. وانتقد خصوم السوداني استخدام موارد الحكومة في الحملة الانتخابية، كما انتقدوا سوء الخدمات بعد ثلاث سنوات من ولاية الحكومة الحالية، وعلاقات السوداني بالنظام السني الجديد في سوريا، ودفء علاقاته مع بعض الدول العربية.
أما السوداني، فقد حرص على الظهور بمظهر المتزن فوق الخلافات. كرئيس للوزراء ركّز على تعزيز مكانته العامة وتسريع أنشطة حكومته، فدشّن مشاريع بناء في بغداد والمحافظات، وافتتح مستشفيات ومدارس جديدة، ووقّع عقودًا ومذكرات تفاهم مع شركات نفط غربية كبرى مثل “إكسون موبِل” الأميركية و”برتش بتروليوم” البريطانية، وسافر إلى دول إقليمية منها عُمان والإمارات، وتفاوض على استئناف تصدير النفط من كردستان. كما حضر قمة “سلام غزة” في شرم الشيخ، حيث التقط صورة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
كإشارة إلى تزايد حظوظه، تحوّل عدة مرشحين بارزين كانوا سابقًا ضمن تحالف المالكي إلى قائمة السوداني “الإعمار والتنمية”.
من جانب آخر، تخشى أحزاب شيعية أن يؤدي انخفاض المشاركة الشيعية في وسط وجنوب العراق، مقابل ارتفاع نسبة التصويت السني، إلى حصول السنة على مقاعد أكثر “غير معتادة” في البرلمان وزيادة نفوذهم. ويرون أن هذا يشكّل خطرًا كبيرًا، خصوصًا في بغداد، المدينة المتنوعة دينيًا التي تمثل 69 مقعدًا برلمانيًا، حيث سيتنافس الشيعة ليس فقط ضد أحزابهم، بل أيضًا ضد مرشحين سنة متحفّزين. وقد حذّر متحدثون شيعة من هذا الخطر، مستخدمين خطابًا طائفيًا تحذيريًا لدفع الشيعة للتصويت، في خطاب عام انتشر على نطاق واسع، استخدم فيه شعار “لا تُضيّعوها” لتحفيز الناخبين الشيعة على التصويت.
كذلك، تحتاج الكتلة الشيعية أيضًا إلى اختيار مرشّح لا يثير غضب الولايات المتحدة عبر العقوبات أو التهديدات العسكرية، كما شهدت في فترة إدارة ترامب الأولى، وفي الوقت ذاته يحظى بموافقة إيران. في بيئة إقليمية متقلّبة وسريعة التغير، سيواجه الإطار التنسيقي تحديًا كبيرًا بعد الانتخابات. أيًّا كانت النتيجة، قد يظهر مرشّح مفاجئ.
* عن المجلس الأطلسي للدراسات