ترجمة: حامد أحمد
أشار مراقبون إلى أن الانتخابات البرلمانية، التي تتزامن مع أكثر فترات الاستقرار التي يعيشها العراق حاليًا، ستكون بمثابة اختبار لقدرتها على الصمود أمام تقلبات السياسة الانتخابية وعملية تشكيل الحكومة التي تستغرق وقتًا طويلًا، والبقاء بعيدًا عن الحروب والتوترات الأوسع التي تجتاح منطقة تشهد تحولًا عميقًا وخطيرًا.
ويذكر الباحث ريناد منصور من معهد “تشاتام هاوس” للدراسات في لندن، في تقرير نشره موقع “ذا ناشيونال” الإخباري، أن الانتخابات العراقية نادرًا ما تعكس التنافس حول الرؤى السياسية والمصالح الداخلية والخارجية، بقدر ما هي تنافس حول آليات المحسوبية والقرب من السلطة، حيث يتنافس آلاف المرشحين على مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 329 مقعدًا، من خلال تقديم حوافز مادية واقتصادية لتحريك قواعدهم الاجتماعية. ومع انخفاض معدلات المشاركة الانتخابية باستمرار، تصبح هذه القواعد – أو أولئك الذين ما زالوا يصوتون – أكثر حسمًا.
ومع ذلك، يذكر الباحث أن وراء السياسة الانتخابية التقليدية تكمن محادثة نخبوية حول كيفية الحفاظ على استقرار العراق الأخير، الذي ساهم جزئيًا في فترة من الازدهار. فطيف واسع من القوى السياسية العراقية – حتى بين الفصائل المقربة من طهران والمعادية لواشنطن – يتفق على أن مثل هذا الاستقرار يعتمد على الحفاظ على سياسة الانخراط الإقليمي مع جميع الجيران، واستمرار التعاون، ولو بحذر، مع الولايات المتحدة.
والسؤال الآن هو ما إذا كانت هذه الانتخابات، وعملية تشكيل الحكومة المتوترة والعنيفة غالبًا، ستفكك هذا الإجماع وتنسف الهدوء الهش في العراق، وتجر البلاد مرة أخرى إلى الصراع الإقليمي.
في الماضي، غالبا ما كانت الانتخابات تأتي في فترات عدم استقرار ذات كلف جيوسياسية. قبل انتخابات عام 2021، كانت بغداد تحقق خطوات مهمة نحو وضع نفسها كجسر إقليمي، مستضيفةً الحوار بين السعودية وإيران، ومقدمةً مؤتمر بغداد الذي جمع قادة من الخليج وإيران وخارجها، وبدأت في تحديد دور محتمل كمنسق إقليمي.
لكن الانتخابات قلبت هذا الزخم، فقد انزلقت عملية تشكيل الحكومة إلى الفوضى: اقتحمت فصائل متنافسة المنطقة الخضراء، واستهدفت هجمات بطائرات مسيرة منازل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وقادة آخرين، فضلًا عن عدة مناطق في أربيل، في حين أدت عمليات اغتيال متبادلة في جنوب العراق واقتحام الصدريين للمنطقة الخضراء في أغسطس/آب 2022 إلى مقتل 30 شخصًا.
استغرق تشكيل الحكومة أكثر من عام، وفي تلك الفترة، وسط العنف والشلل، تبخّر الزخم الدبلوماسي العراقي. وعُقد المنتدى الإقليمي التالي ليس في بغداد بل في عمّان، وكانت الصين، وليس العراق، هي التي توسطت في نهاية المطاف في المصالحة الرسمية بين السعودية وإيران.
مرة أخرى، تأتي الانتخابات العراقية في لحظة إقليمية حاسمة. النخب العراقية تدرك تمامًا أن المواجهة بين إسرائيل وإيران لم تنتهِ بعد، وأن احتمال ردود أفعال إدارة ترامب التي لا يمكن توقعها زاد من قلقها. ولهذا فإن التقدير الواقعي يشير إلى أن استقرار العراق والراحة الاقتصادية المؤقتة التي شهدها ما زالا هشين. وفي محادثات مع سياسيين ومستشارين كبار، يُسمع تكرار دائم: لم يعد بإمكان العراق أن يُسحب إلى مواجهة إقليمية، على الأرجح بسبب إسرائيل أو الولايات المتحدة.
السؤال هو ما إذا كانت سياسة العراق الحالية في التوازن المتعدد يمكن أن تصمد في خضم الانتخابات القادمة.
يخشى كثيرون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أشار صراحةً إلى العراق في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يرفع نظره عن بغداد. وبصمت، يعترف البعض بأن علاقة العراق مع واشنطن، لا سيما في التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، عملت كوسيلة ردع غير رسمية ضد الاستفزازات الإسرائيلية. ومع ذلك، يكمن تحت هذه الواقعية قلق عميق: فالتوازن الدقيق الذي حافظ عليه العراق بين الولايات المتحدة وإيران هش، والأشهر القادمة قد تختبر ما إذا كان سعي بغداد نحو الاستقرار قادرًا على الصمود أمام صراعات المنطقة.
لمواجهة هذه التهديدات المتزايدة، بذلت حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني جهدًا ملموسًا لاستعادة شركات النفط الأمريكية إلى العراق بعد سنوات من الغياب، حيث وقّعت بغداد مؤخرًا اتفاقًا مبدئيًا مع شركة “شيفرون” لمشروع الناصرية، الذي يشمل أربع مناطق استكشافية وتطوير عدة حقول نفطية منتجة ذات إمكانات ضخمة غير مستغلة. كما وافقت شركة “إكسون موبيل” على المساعدة في توسيع الإنتاج في حقل “مجنون” العملاق، في عودة رمزية لإحدى عمالقة الطاقة الأمريكية.
السؤال الحقيقي، إذن، هو ما إذا كانت سياسة العراق الحالية في التوازن المتعدد، وتحسن علاقاته مع الخليج وتركيا والولايات المتحدة، قادرة على الصمود أمام الانتخابات القادمة وتشكيل حكومة جديدة. ويبقى السوداني الأوفر حظًا في التصويت، لكن القليلين يتوقعون أن يحصل على ولاية ثانية بسبب الخلافات والتنافسات داخل كتل الإطار التنسيقي.
ومع ذلك، هناك اعتراف حتى داخل الإطار التنسيقي بما حققه السوداني خلال فترة حكمه: استقرار من خلال التحوّط، والانخراط بدل المقاومة، والربح من خلال الاستقرار. قد يتغير الوجه القادم لرئاسة الوزراء، لكن صانعي القرار العراقيين شعروا بفوائد ضبط النفس. الاختبار المقبل هو ما إذا كانوا سيختارون الحفاظ على هذا التوازن الهش أو السماح للبلاد بأن تنجرف مرة أخرى في صراعات المنطقة.
* عن “ذا ناشيونال” الإخباري