ترامب الآن يشبه مقامراً قرر وضع كل ماله على رهان واحد، أحمد الشرع، الزعيم الذي نجح في السيطرة على سوريا بصورة عاصفة، وربما كل الشرق الأوسط. ولكن خلافاً للمقامر الأعمى في الكازينو، الذي لا يستطيع بعد ليلة طويلة من الخسارة إلا الدعاء بسقوط حجر النرد على المكان الصحيح، جلب ترامب حجر النرد من المنزل للتأكد من ميل “الطاولة” لصالحه. أمس، التقى مع الشرع للمرة الثالثة. بدا واضحاً لهما اعتمادهما على بعضهما، نجاح الشرع الذي قد يكون الإنجاز السياسي والاستراتيجي الأهم لترامب منذ بداية ولايته، في حين يعرف الشرع أن شرعيته وقدرته على قيادة سوريا تعتمد على ترامب. السؤال هو: كيف يُعرّفان النجاح وكيف يستغلانه؟
سيقترح الشرع على ترامب مهراً مهماً: انضمام سوريا إلى التحالف الدولي الذي شكل في 2014 للقضاء على “داعش”، الذي يضم في عضويته 89 دولة؛ ضم سوريا إلى الكتلة “المؤيدة للغرب”، بالأساس المؤيدة لأمريكا، والانفصال عن “الكتلة الشرقية” التي كانت ذات مرة سوفييتية ثم روسية؛ ووقف نفوذ إيران في الشرق الأوسط؛ والترتيبات الأمنية مع إسرائيل؛ وربما الانضمام إلى “اتفاقات ابراهيم” التي أصبحت العلامة التجارية لسياسة ترامب في المنطقة. أما الشرع من ناحيته فحصل من ترامب على عدة سلف، أهمها عناق ومصافحة علنية في مشهد غطي إعلامياً في الرياض في أيار الماضي. في تلك اللحظة، حصل “الشاب الجذاب ذو الماضي القوي”، حسب ترامب، على اعتراف أمريكا والشرعية. بعد ذلك، تم رفع اسمه من قائمة الإرهابيين الدوليين، التي تم فيها وضع جائزة بـ 10 ملايين دولار مقابل رأسه. بعد ذلك، حرر ترامب سوريا لستة أشهر من العقوبات الثقيلة التي تم فرضها عليها، وبذلك ألمح إلى أن سوريا أصبحت مفتوحة أمام الاستثمارات وتدفق أموال المساعدات، ليس من الولايات المتحدة فقط، بل من كل العالم.
ولكن في لقاء أمس داخل الغرفة البيضاوية، لم يجلس الشرع وحده مع ترامب. هو مثل مجموعة مستثمرين مهمة، ربما الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، التي يدين لها بالمكانة التي حصل عليها، والتي تمسك بأداة تأثير ثقيلة الوزن على ترامب. وقفت على رأس هذه المجموعة السعودية التي حاكمها الفعلي محمد بن سلمان، الذي يتوقع أن تتم استضافته في البيت الأبيض قريباً بعد غياب استمر سبع سنوات، والذي كان المحرك الرئيسي الذي جعل ترامب يعترف بالشرع. جلست إلى جانبه الإمارات وقطر وتركيا، التي سارعت إلى تحويل سوريا إلى دولة رعاية وجباية المقابل السياسي الذي تستحقه عن سنوات المساعدة والتمويل والتدريب العسكري لـ “هيئة تحرير الشام”، ووحدت المليشيات الإسلامية التي قادها الشرع حتى إسقاط نظام الأسد. كل دولة من هذه الدول، وجميعها معاً، تشكل دعامة اقتصادية وأمنية للنظام الجديد في سوريا، بل وتوفر غطاء ضمانات تضمن لترامب النجاح في رهانه.
في هذا السياق، يمكن التذكير بأن هذه الدول لم تسجل حتى الآن أي نجاح كبير في حل النزاعات الإقليمية، سواء في اليمن أو السودان أو ليبيا، حتى العراق تركته لرعاية إيران بعد حرب الخليج، ونتائج تدخلها في غزة يجب انتظارها. الدولة التي غابت عن هذه الصورة الجماعية هي إسرائيل، التي يجب عدم التقليل من إسهامها في نجاح حملة إسقاط الأسد. فقد حيّدت معظم قدرات حزب الله لمساعدة الأسد، وأضرت بالقوات الإيرانية والقوات التي تؤيدها في سوريا، التي كان يمكنها الدفاع عن النظام. بعد ذلك، كان يمكن للشرع الاندفاع من إدلب، ووصل بدون أي عوائق إلى القصر الرئاسي في دمشق. والآن تُعتبر إسرائيل، حتى في واشنطن، العائق أمام تحقيق الإنجاز السوري.
لكن الغطاء الدائم الذي تمكن الشرع السياسي من إقامته لنفسه خلال سنة تقريباً، سيجد صعوبة في إزاحة العقبة الكأداء التي تقف أمامه والتي ستصعب عليه الوفاء بالتزاماته للرئيس ترامب والمواطنين السوريين والدول المؤيدة. إن انضمام سوريا للتحالف ضد “داعش” مثلاً، سيلزم الشرع بوضع قوات سورية مدربة ومؤهلة ومسلحة في ساحة المعركة، في الوقت الذي ما زال فيه الجيش السوري “الجديد” في مهده. بدأت تركيا الآن في تدريب الجيش وإعداده، وتقوم السعودية وقطر بتمويل تنظيمه العسكري، أما الإدارة الأمريكية فمن المتوقع أن تشرك سوريا في المعلومات الاستخبارية والسلاح. نفذت القوات السورية حتى الآن خمس عمليات عسكرية مشتركة مع القوات الأمريكية، وسجلت نجاحاً كبيراً في تصفية نشطاء “داعش”. ولكن حتى يستطيع الجيش السوري تحمل المسؤولية عن كل المعركة، فهو بحاجة ليس فقط إلى الوقت، بل بالأساس إلى إدارة سليمة لقوات الجيش وغربلة المقاتلين الذين سينضمون إليه لضمان عدم تسرب جهات متطرفة ورجال عصابات إليه، وسيطرة كاملة على المليشيات التي لم تنضم بعد إلى الجيش.
التقرير عن محاولات اغتيال الشرع، التي تم إحباطها على يد قواته، وازدياد نشاطات مقاتلي “داعش”، 3 – 5 آلاف مقاتل، تدل على ان هذه الجبهة قد تمتد إذا لم تُستأصل بسرعة. سوريا، بالتعاون مع تركيا، اقترحت بناء سجون لأعضاء “داعش” على حدودها كي تنقل إليها عشرات آلاف المعتقلين من السجون التي أقيمت في الأقاليم الكردية. الولايات المتحدة تؤيد هذه الفكرة، لكن كل العملية بحاجة إلى تجنيد وتدريب آلاف المقاتلين، وتوافق مع القوات الكردية، حلفاء واشنطن. الأكراد يخشون وبحق من أن نقل المسؤولية عن محاربة “داعش” إلى النظام السوري يعني التنازل عن خدماتهم، وبعد ذلك التخلي عنهم. أعلن الأكراد أنهم على استعداد للانضمام إلى الجيش السوري، لكن كقوة تنظيمية موحدة وليس كأفراد، وطلبوا أن تعطى لهم مسؤولية أمن الأقاليم الكردية. سيحاول ترامب ومبعوثه توم باراك إقناع الشرع بإيجاد تسوية معينة تكون مرضية للأكراد وتضمن أمنهم الشخصي والمجتمعي. ولكن الصيغة العجيبة لهذه التسوية لم توجد بعد.
الترتيبات الأمنية مع إسرائيل تنتظر اللمسة الأخيرة. فرغم التقدم الذي أحرز في المفاوضات المباشرة بين الطرفين والرغبة في توقيع اتفاق أثناء زيارة الشرع لواشنطن، فإن بعض التفاصيل ما زالت عالقة. وحسب تقرير “رويترز” في الأسبوع الماضي، تعتزم الولايات المتحدة إقامة قاعدة عسكرية قرب دمشق لمراقبة التريبات الأمنية مع إسرائيل، التي تقوم على إنشاء منطقة منزوعة السلاح من جنوب دمشق وحتى الحدود السورية الغربية والجنوبية. نفت سوريا ما جاء في هذا التقرير، وحتى لو كانت النية جدية، فمن غير الواضح ما هي صلاحيات القوة الأمريكية وما هو نطاق المنطقة منزوعة السلاح، وما إذا كانت قوات الشرطة السورية ستتمكن من العمل فيها، وما هو مصير السلاح الموجود لدى الدروز في السويداء، وإذا كانت إسرائيل ستتمكن من الحفاظ على اتصال مباشر معهم.
الترتيبات الأمنية، سواء مع إسرائيل أو حول مستقبل القوات الكردية، تعتمد بشكل أساسي على قرار الشرع وترامب، لكن التحدي المدني يبقى مهمة ضخمة منفصلة، تنتظر تحديد ملامح إعادة إعمار سوريا. حتى الآن، نجح الشرع في الحصول على التزامات مالية كافية، حوالي 28 مليار دولار، من أجل إعادة إعمار سوريا، معظمها من السعودية وقطر وتركيا. ولكن حسب تقديرات البنك الدولي، يحتاج إعمار سوريا إلى استثمارات تبلغ أكثر من 300 مليار دولار.
إضافة إلى المساعدات الأولية لتلبية الاحتياجات الإنسانية ودفع رواتب الجنود، تنتظر الأموال رفع العقوبات الأمريكية، لا سيما المشمولة في قانون “قيصر” الذي تم سنه في 2019، والذي يحظر تقديم أي مساعدات مالية أو غيرها للحكومة السورية. وقد وافق مجلس الشيوخ بالفعل على إلغاء هذا القانون، لكن استكمال التشريع يحتاج إلى موافقة مجلس النواب أيضاً. ومن المرجح أن تستمر هذه العملية لفترة طويلة، وأن تواجه بمعارضة حتى في الحزب الجمهوري. حتى ذلك الحين، لن يقوم أي مستثمر أو أي دولة، بما في ذلك الدول العربية المانحة، بتقديم التبرعات، في هذه الأثناء أكثر من نصف سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر. وربما يزداد النمو 1 في المئة فقطـ في هذه السنة.
إن الغاء العقوبات شرط ضروري للبدء في إعادة الإعمار، لكنه غير كاف. على النظام سن سلسلة طويلة من القوانين التي ستنظم نشاطات البنوك وتضمن الاستثمارات الأجنبية وتعالج الفساد وتبييض الأموال ووضع شروط لتوزيع الامتيازات لتنفيذ المشاريع. حتى الآن، عرف الشرع كيفية التعامل مع قوات المعارضة، لكنه قد يكتشف بأن المعركة على الأموال معقدة أكثر من المعركة العسكرية التي أدارها بنجاح ضد نظام الاسد.
هآرتس 11/11/2025