الوثيقة | مشاهدة الموضوع - العراق: أيام بارزاني السوفييتية : صادق الطائي
تغيير حجم الخط     

العراق: أيام بارزاني السوفييتية : صادق الطائي

مشاركة » الاثنين أغسطس 31, 2020 4:22 am

32.jpg
 
ربما كانت الإحدى عشرة سنة (1947- 1958) التي قضاها الزعيم الكردي مصطفى بارزاني، الأكثر غموضا في حياته، إذ مثلت رحلته الأسطورية من كردستان العراق إلى أذربيجان السوفييتية، الخطوة التي بلورت صورته الكارزمية في مختلف أقسام كردستان الكبرى في العراق وإيران وتركيا، ولكن من ناحية أخرى، ربما كان هذا العقد من عمر بارزاني الأكثر إيلاما وإذلالا وانكسارا في تاريخه الحافل بالقتال والتمرد والمفاوضات السياسية، مع مختلف القوى العالمية.
ولفهم العلاقة والدوافع التي حدت ببارزاني لاتخاذ قراره باللجوء إلى الاتحاد السوفييتي، لا بد من تسليط الضوء وبعجالة على الخلفية التأريخية للعلاقة الكردية الروسية، وبشكل خاص العلاقة بين العشيرة البارزانية والقوى الروسية الرسمية، إذ تشير المصادر إلى طلب الأخ الأكبر لمصطفى بارزاني الشيخ عبد السلام بارزاني المعونة من قنصل روسيا القيصرية في إيران، عبر إمداد مقاتلي البارزاني بالأسلحة والمعدات لقتال الدولة العثمانية، في تمرده ضد العثمانيين عام 1904، وكذلك علاقات الشيخ أحمد بارزاني مع السوفييت في تمرد1931، لكن ذروة العلاقات بين الطرفين كانت بعد انكسار تمرد 1943، الذي قاده مصطفى بارزاني في كردستان العراق، وبعد هزيمته أمام القوات العراقية والبريطانية المشتركة، انسحب عام 1945 إلى كردستان إيران التي كانت تحت السيطرة السوفييتية في نهاية الحرب العالمية الثانية.
العلاقة المركبة والمعقدة بين بارزاني والسوفييت، توطدت عندما شغل منصب القائد العسكري العام لما عرف بجمهورية كردستان الديمقراطية، التي أعلنها الكرد تحت حماية السوفييت عام 1946، والتي عرفت بجمهورية مهاباد، المدينة الواقعة قرب بحيرة أرومية في أقصى الشمال الغربي في إيران، وكان المخطط السوفييتي حينها يسعى لإقامة جمهورية كردية سوفييتية، وضم أذربيجان الإيرانية إلى جمهورية أذربيجان السوفييتية، وكان منفّذ سياسات ستالين في هذا الأمر باقروف، الأمين العام للحزب الشيوعي الأذربيجاني، الذي كان يسعى لأن يضم الجمهوريتين الكردية والأذرية تحت حكمه، لأن أكبر تواجد للقومية الكردية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي كان في أذربيجان. ونتيجة تقاسمات المنتصرين نهاية الحرب العالمية الثانية، وتركيز ستالين على أوروبا الشرقية، وضغوط بريطانيا والولايات المتحدة على السوفييت، انسحب الجيش السوفييتي من كردستان إيران، تاركا الكرد لقمة سائغة أمام بطش الجيش الإيراني، الذي أسقط جمهورية مهاباد، واعتقل وأعدم قيادتاها، وعلى رأسهم رئيس الدولة الوليدة قاضي محمد، الذي أعدم في ميدان عام وسط مدينة مهاباد، وتكالبت كل الظروف على مصطفى بارزاني في تلك المحنة، إذ بات لا يقوى على قتال الجيوش الإيرانية، والعراقية، والتركية، التي يقف خلفها الدعم البريطاني والأمريكي، ولم يبق أمامه إلا الرحيل إلى الاتحاد السوفييتي، وهذا ما تم مع 500 مقاتل من عشيرته، الذين قطعوا مئات الكيلومترات تحت ضربات الجيش الإيراني حينا، والجيش التركي حينا، وفي النهاية دخلوا جمهورية أذربيجان السوفييتية عبر نهر آراس في يونيو 1947.
يبدو أن خطط بارزاني وتوقعاته عما سيقدمه له الاتحاد السوفييتي، الذي كان يعيش في ظل أعتى حقبه الديكتاتورية أبان الحكم الستاليني، لم تكن متوافقة مع ما رآه السوفييت، أو خططوا له من دور لهذا الفوج الكردي الذي يقوده رجل يحظى بزعامة عشائرية ودينية. فتوقعات بارزاني أو آماله كانت تتركز على الدعم السوفييتي المتمثل بالتدريب والسلاح والمعدات والمال، ليستثمر أي فرصة ليعود مهاجما كردستان إيران، وإنشاء حكم ذاتي، في أي بقعة من كردستان، بينما موسكو الستالينية كانت تحاول أن تدجن الزعيم القبلي، وتعطيه من الدعم الشيء المحدود، لحين توفر الفرصة ليلعب به السوفييت كورقة ضغط في الشرق الأوسط. حلقة الوصل بين بارزاني وموسكو كان باقروف الزعيم الأذربيجاني، الذي كان كثير الارتياب ببارزاني، وقد أبلغه الأخير بوضوح بمطالبه منذ لقائهما الأول، إذ قال بارزاني لباقروف: «نحن شعب مظلوم إلى أقصى الحدود، وأملنا هو شعوب الاتحاد السوفييتي، ونحن بحاجة إلى العلم والفنون العسكرية، فنرجو منكم مساعدتنا ودعمنا، وتبني قضية شعب كردستان، وأنقل لكم هذا الرجاء باسم الشعب الكردي، وأرجو أن تنقله إلى القيادة العليا في موسكو».

حاول مصطفى بارزاني استثمار أي ورقة ضغط سياسية يمكن أن تخدم أهدافه القومية في إنشاء دولته الكردية

محنة بارزاني وسنواته السوداء في الاتحاد السوفييتي ابتدأت نتيجة شكوك باقروف، وعدم ارتياحه لهذا الزعيم القبلي، الذي يحيط به أفراد عشيرته المقاتلون الاشداء، فعمل الثلاثي: باقروف يساعده يوسفوف، الزعيم الأوزبكستاني، وبدعم مسؤولهما العتيد بيريا، رجل ستالين المرعب، على التنكيل ببارزاني ورجاله، ومعاملتهم كأسرى حرب، وليسوا لاجئين سياسيين، إذ تم توزيعهم على معسكرات العمل والكولخوزات المختلفة في القفقاس، حتى أن بارزاني نفسه عمل وزانا في إحدى المزارع التعاونية في أوزبكستان، لكن هذه المحنة استمرت حتى عام 1952، بحسب ما كتبه مسعود بارزاني، عندما أرخ لسنوات والده في الاتحاد السوفييتي، وعن طريق رسالة أرسلها بارزاني المحاصر في أوزبكستان مع أحد المتسللين إلى موسكو وصلت إلى ستالين، بحسب رواية مسعود، أو تسلل بارزاني نفسه ووصوله إلى الكرملين بحسب روايات أخرى، أوصل مصطفى بارزاني معاناته للكرملين وسيده العتيد ستالين، فتم تخفيف الضغوط على البارزانيين في السنة الاخيرة من حكم ستالين.
ومن الإشاعات التي تحولت إلى أساطير، مسألة منح رتبة جنرال لمصطفى بارزاني في الجيش السوفييتي، وقد أوردت الخبر بعض الصحف الغربية، ويشير يفغيني بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الأسبق في كتابه «الكواليس السرية للشرق الاوسط» إلى ذلك فيقول، «عاش بارزاني في الاتحاد السوفييتي باسم ماميدوف، ولم يخدم لا هو ولا رجاله في القوات المسلحة السوفييتية، وهكذا تكون الإشاعات التي انتشرت عن أن بارزاني كان جنرالا في الجيش السوفييتي تظل محض كذب من البداية للنهاية، إلا أن هذه الإشاعات كانت مرتبطة بحادثة، رواها لي في ما بعد بارزاني نفسه، فعندما كان في موسكو اشترى من محل للملابس العسكرية زي جنرال، وكان هذا الأمر متاحا في ذلك الوقت، والتقطت له صورة مرتديا هذا الزي، ووصلت الصورة للمخابرات الإنكليزية، ومنها تسربت للصحافة، هذا كل ما حدث». لكن بريماكوف لم يفصح عن سبب التقاط الصورة، ولا كيفية تسريبها للمخابرات البريطانية ولا سبب ذلك.
ولم يتم الانفراج الحقيقي في حياة بارزاني ورجاله في الاتحاد السوفييتي، إلا بعد وفاة ستالين وإزاحة بريا ورجاله من مراكز السلطة، وبدء عهد خروشوف الذي تميز بتفهم أكثر لوضع بارزاني ورجاله، الذين انخرط العديد منهم في الدراسة والحصول على تخصصات علمية وعسكرية، لكن حتى في هذه المرحلة، لم يكن مسموحا لبارزاني بمغادرة الاتحاد السوفييتي، ولم تحن تلك الفرصة إلا بعد الانقلاب العسكري في 14 تموز 1958 في العراق، الذي أطاح الحكم الملكي، وأعلن قيام الجمهورية العراقية، وحينذاك بات مسموحا لبارزاني ورجاله بالعودة للعراق، فعاد بارزاني إلى العراق مارا ببراغ لحضور مؤتمر، ومن ثم توقف في القاهرة للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، ثم توجه إلى العراق، بينما عاد رجاله على ظهر الباخرة السوفييتية «جورجيا» من ميناء أوديسا التي أوصلتهم إلى ميناء البصرة جنوب العراق.
لم يدم شهر العسل بين بارزاني وحكومة عبد الكريم قاسم طويلا، إذ سرعان ما اشتعل التمرد الكردي مجددا في سبتمبر 1961، ولعب بارزاني على عدة أوراق سياسية عبر تحالفاته مع إيران الشاه والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، إلا أن علاقته بالسوفييت مع كل ذلك لم تخب، إذ قاد يفيغني بريماكوف الشاب الذي كان يعمل تحت غطاء صحافي في جريدة «البرافدا»، وفي الواقع كان ضابطا في الاستخبارات الروسية (KGB)، قاد جولة مفاوضات مهمة مع بارزاني، ابتدأت منذ عام 1966 واستمرت حتى 1970، وهو يقول في كتابه «الكواليس السرية للشرق الأوسط»، من الممكن اعتباري خلال الفترة من 1966 وحتى 1970الممثل السوفييتي الوحيد الذي التقى بارزاني». وكان الاتحاد السوفييتي يدفع باتجاه وضع حلول لتذليل الأزمة بين حكومة البعث وقيادة التمرد الكردي، ليحظى بمعاهدة الصداقة، والحصول على الاستثمار النفطي الهائل في حقول الرميلة، الذي حصل عليه السوفييت بعد عام 1973، ويذكر بريماكوف التوتر الذي حدث عام 1973 بين بارزاني وصدام حسين، الذي طلب منه مقابلة بارزاني والتطبيع الامور بينهما، إذ يذكر بريماكوف، «قال صدام نحن أصحاب مصلحة في ألا يعتقد أن اهتمام الاتحاد السوفييتي به قد قل، نحن نقدر عاليا جدا قدرتكم على التأثير فيه، وانه (صدام) سيصدر أوامره بتقديم طائرة لي للطيران إلى كركوك ومروحية إلى راوندوز للقاء بارزاني».
من بين ركام الإشاعات والروايات المتضاربة، التي رسمت خطوط العلاقة بين بارزاني والسوفييت، يمكننا استشعار نمط غريب من العلاقة، إذ حاول بارزاني الذي لم يكن يوما قريبا، أو مقتنعا بالماركسية، أو الشيوعية، أو الاشتراكية، وكان سلوكه محكوما بتحدره القبلي والديني، حاول جاهدا استثمار أي ورقة ضغط سياسية يمكن أن تخدم أهدافه القومية في إنشاء دولته الكردية. بينما حاول السوفييت اللعب على توازنات المنطقة، عبر استغلال زعامة كارزمية كزعامة مصطفى بارزاني، ومرّت العلاقة بينهما بتموجات من القوة والضعف، رسمت قصة درامية فيها الكثير من المشاهد المضحكة والمبكية.
كاتب عراقي
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron