إعلان زعيم حزب العمال الكردي (بي.كي.كي) عبد الله أوجلان الخميس، ودعوته لحزبه إلى إلقاء السلاح وعقد سلام مع تركيا، ربما يؤدي إلى تغيير جذري في ميزان القوى في سوريا؛ التأثير على مكانة تركيا الإقليمية؛ والمضي بسحب القوات الأمريكية من سوريا؛ وتحدي وجود إسرائيل في مناطق جنوبي سوريا.
هذه ليست المرة الأولى التي يستجيب فيها أوجلان لمبادرة تركية للبدء في مفاوضات وتحريك عملية مصالحة تاريخية مع الحركة الانفصالية، التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابية. وفي 2013، أي بعد حوالي أربع سنوات من المفاوضات شبه السرية، اقترح أوجلان وقف النار ودعا رجاله إلى الانسحاب من تركيا والانتقال إلى العراق، والحديث يدور في هذه المرة عن خطوة أبعد بكثير: دعي التنظيم لإلقاء السلاح، بل وحل نفسه.
القرار الذي أعلنت عنه قيادة التنظيم أمس، التي تتخذ مقراً في جبال قنديل بالعراق، تبني بيان أوجلان والإعلان عن وقف فوري لإطلاق النار، لا يدل حتى الآن على استعدادها لحل الإطار التنظيمي الذي يعمل منذ أربعة عقود، أو نزع سلاحه
القرار الذي أعلنت عنه قيادة التنظيم أمس، التي تتخذ مقراً في جبال قنديل بالعراق، تبني بيان أوجلان (حتى الآن بشكل جزئي) والإعلان عن وقف فوري لإطلاق النار، لا يدل حتى الآن على استعدادها لحل الإطار التنظيمي الذي يعمل منذ أربعة عقود، أو نزع سلاحه. مع ذلك، يدور الحديث عن خطوة أولى حيوية قبل البدء في المفاوضات السياسية المليئة بالعقبات المتفجرة، التي من المبكر القول إنها ستتكلل بالنجاح. مصلحة الجانين، الأكراد والحكومة التركية برئاسة طيب رجب أردوغان، بوضع حد للنزاع الذي أدى إلى موت أكثر من 40 ألف شخص، موجودة منذ سنوات. ولكن يبدو أن التطورات الإقليمية منذ 7 أكتوبر، التي كانت ذروتها سقوط نظام الأسد وإقامة نظام جديد في سوريا برئاسة أحمد الشرع، أوجدت إطاراً سياسياً جديداً أعطى أولوية لتسوية بين تركيا والأكراد وزيادة احتمالات نجاحه.
تركيا، التي حولت نفسها بسرعة إلى دولة رعاية لسوريا بعد سقوط نظام الأسد، تطمح إلى أن تكون أكثر من مجرد شريكة رئيسية في مشروع إعادة الإعمار لهذه الدولة التي تدمرت في الـ 14 سنة من الحرب الأهلية. ويرى أردوغان في جارته الجنوبية جزءاً لا يتجزأ من أدوات نفوذه الاستراتيجية الإقليمية بعد انسحاب إيران منها، ومحاولة روسيا الحفاظ على قاعدتي حميميم وطرطوس. ولكن جني المكاسب السياسية والعسكرية في سوريا يلزم تركيا بمساعدة الشرع على إقامة دولة موحدة مع جيش وطني واحد يستبدل عشرات المليشيات العاملة فيها.
من خلال خليط المليشيات هذا، هناك قوتان عسكريتان أساسيتان تهددان عملية الانصهار العسكري والسياسي: في شمال الدولة هناك القوات الكردية السورية التي تنتظم في إطار “قوات سوريا الديمقراطية” (اس.دي.اف) وهي الجسم العسكري الذي يتكون من الأكراد، وفيه أيضاً عرب وسريان وأرمن، هذا جسم أقامته الولايات المتحدة لمحاربة داعش، ومن “وحدات الدفاع الشعبي” الكردية. أما في جنوب الدولة فهناك القوات الدرزية التي حافظت على درجة من الاستقلال الذاتي وصد سيطرة جيش الأسد على منطقة السويداء ومحيطها.
لهذين الأساسين القويين طلبات يصعب تحقيقها، حيث كل واحد يطالب بحقوق حكم ذاتي، ثقافي وسياسي، بصورة قد تحول سوريا إلى دولة كانتونات. حتى إذا تطورت هذه إلى دولة فيدرالية، فستنتقص من صلاحيات الحكم المطلقة التي يطمح إليها الشرع. وتسيطر قوات أجنبية في هاتين المنطقتين: في الشمال، احتلت تركيا مناطق في المحافظات الكردية على طول الحدود مع سوريا، وفي الجنوب تسيطر إسرائيل على عدة مناطق، وهي تعتبر “دولة حماية” للدروز.
تركيا، التي تقف إلى جانب سوريا مع دول عربية مثل السعودية في دعوتها لتحرير سوريا من الاحتلال الإسرائيلي، يجب عليها نفسها أن تسحب قواتها من سوريا حتى تستطيع استكمال الشراكة الاستراتيجية مع النظام الجديد في سوريا، وكي لا تعتبر دولة محتلة. في الوقت نفسه، إحباط أي إمكانية لإقامة حكم ذاتي للأكراد يمكن أن يواصل الكفاح المسلح ضدها. وتنفيذ هذه الخطة الرئيسية سيلزم الرئيس السوري بدمج القوات الكردية في الجيش السوري، ومنح المحافظات الكردية درجة معينة من الاستقلال الذاتي الثقافي، لكن بدون أن تتحول إلى كانتون منفصل. وأعلنت القوات الكردية استعدادها للاندماج في الجيش السوري، لكن ليس كأفراد بل كمجموعة منظمة. ولكن الشرع يعارض ذلك خوفاً من إقامة جيش للأكراد داخل الجيش الوطني. بناء على ذلك، ما لم يتم إيجاد حل لقضية القوة الكردية فلا تنوي تركيا سحب قواتها.
الادعاء الرئيسي الذي تستند إليه تركيا في سيطرتها على شمال سوريا ومحاربتها للأكراد في سوريا، يقول إن القوات الكردية السورية جزء لا يتجزأ من الـ بي.كي.كي، وهكذا هم يشكلون جسماً إرهابياً يهدد أمنها الوطني. السؤال المطروح الآن هو كيف سيؤثر وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه حزب العمال الكردستاني وعملية المصالحة إذا تطورت، على استمرار القتال بين تركيا والقوات الكردية السورية؟
زعيم القوات الكردية في سوريا، مظلوم عابدي، أعلن بأنه لا صلة بين تصريحات أوجلان وقرار الـ بي.كي.كي وبين سلوك قواته، وأن قرارات الـ بي.كي.كي غير ملزمة له. ولكن الوجود العسكري والاقتصادي للقوات الكردية في سوريا يعتمد على الدعم الأمريكي وتواجد 2000 جندي ومدرب أمريكي في شمال سوريا.
بالنسبة للقوات الكردية، فإن الولايات المتحدة يحكمها حالياً الرئيس الذي سعى إلى سحب قواته من سوريا في 2019، وهي الخطوة التي لم تتحقق بسبب ضغط الكونغرس والمجتمع الدولي. الآن حيث الكونغرس إلى جانبه وعلاقاته مع “المجتمع الدولي”، أي دول أوروبا، تبدو مثل منافسة للي الأذرع والبصق في الوجه، فإن سوريا والتزام الولايات المتحدة بالأكراد لن تحتل صدارة أولويات البيت الأبيض. ربما يقتنع ترامب بأن صديقه أردوغان يمكنه استبدال الأكراد بحرب ضد “داعش”، وهكذا ينهي قضية التدخل الأمريكي في سوريا.
نتيجة لذلك، قد يجد الأكراد أنفسهم في مواجهة عسكرية أمام تركيا وسوريا، بدون دعم عسكري من الولايات المتحدة، في حين تجري تركيا تجري عملية مصالحة مع حزب العمال الكردي، الذي يمكن نزع سلاحه لاحقاً. حسب هذا السيناريو التركي، لن يبقى للأكراد في سوريا هامش مناورة، سياسي أو عسكري، وسيوافقون على إملاء الشرع، أي إملاء أردوغان، وعلى سيطرة النظام السوري على كل المحافظات الكردية، ما سيمكن أيضاً من انسحاب تركيا من سوريا. عندها ستقف إسرائيل أيضاً في وضع جديد تكون فيه القوة المحتلة الأجنبية الوحيدة في سوريا وربما تواجه ضغطاً تركياً وسورياً، بل وستقف أمام الإدارة الأمريكية التي قد تجعل أردوغان صاحب البيت في سوريا.
في نهاية الأسبوع، نشرت وكالة “رويترز” بأن إسرائيل تحاول إقناع الإدارة الأمريكية بالعمل على إبقاء القاعدتين الروسيتين في سوريا لإضعاف النظام السوري، وكذلك تخفيف نفوذ تركيا في سوريا، الذي تعتبره إسرائيل تهديداً لأمنها. وثمة تقدير بأن المجال الجوي السوري الذي كان مفتوحاً أمام إسرائيل بالتنسيق مع روسيا، سيُغلق إذا حلت تركيا مكان روسيا كقوة الدفاع الجوي للنظام الجديد.
هذه الخطوات ترتبط بالاتجاه الذي سيسير فيه ترامب، وبوزن أدوات تأثير أردوغان في واشنطن. وربما تحوز أفضلية زائدة إذا نجحت تركيا في تحقيق مصالحة مع الأكراد، التي قد تعطيها أيضاً نقاط أفضلية في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي. هذه ساحة لعب جديدة تسعى فيها إسرائيل إلى تحقيق إنجازات تكتيكية، في حين تنوي تركيا تحقيق نتائج استراتيجية بعيدة المدى.
هآرتس 2/3/2025