غزة – «القدس العربي»: حالة من الفوضى تعُم قطاع غزة إثر استمرار حرب الأمعاء الخاوية التي تشنّ ضد مليوني فلسطيني.
فقد اتبع جيش الاحتلال سياسة تمنع دخول المساعدات لقطاع غزة لأكثر من 100 يوم، وبعد السماح بدخول أعداد محدودة من الشاحنات منع إيصالها لمخازن المؤسسات الدولية المسؤولة عن إيصال المساعدات الغذائية للمواطنين. سلّح جيش الاحتلال الإسرائيلي عصابة من المجرمين الذين أفرج عنهم نتيجة حالة الطوارئ في قطاع غزة، لتكون إحدى مهامها الاستيلاء على شاحنات المساعدات التي سُمح بدخولها أخيرًا للقطاع؛ أما ما ينجو من الشاحنات من أيدي هذه العصابات فيستولي عليها المواطنون نتيجة حالة التجويع القهري التي يعيشونها منذ الأول من آذار/ مارس من العام الجاري. وهذه الفوضى تُعمق حالة الجوع التي يعيشها المواطنون بالإضافة لتعريضهم أنفسهم لمخاطر كبيرة.
40 دولارا ثمن رغيفين
يقول أبو المجد (36 عاما) لـ»القدس العربي»، (فضل عدم الإفصاح عن اسمه: «أعاني من أجل تأمين رغيف خبز لكل فرد من أسرتي المكونة من 5 أفراد فكيلو الدقيق تبلغ قيمته 70 شيكلا -20 دولارا- بالإضافة لتكاليف عمولة السحب هذا الكيلو لا يكفي إلا لصنع رغيفين للفرد طوال اليوم بالإضافة لتكاليف الحطب للخبز تصل لنحو 40 دولار دون أن تؤمن طعام بجانب الخبز».
وأضاف: «هذه التكاليف لا يمكن تأمينها لا مني ولا من 90% من الشعب، ومنذ الأول من آذار/مارس لم نتلق مساعدات، ولا يوجد في الأسواق ما يمكن أكله إلا بضع الخضار بأسعار عالية جداً، وعند اشتداد الجوع اضطررت للذهاب إلى منطقة «نيتساريم» أو إلى منطقة «الأمريكية» شمالي قطاع غزة، لأجلب ما يمكن جلبه من طحين أو أرز لأسرتي. المرات القليلة التي توجهت بها إلى مناطق سرقة المساعدات، رأيت الموت بعيني، فجيش الاحتلال يطلق الرصاص باتجاهنا، بالإضافة إلى اللصوص الذين يحاولون سرقة ما نحصل عليه من الشاحنة ليبيعوه في الأسواق بأسعار باهظة «. ويضيف: «بعد مشقة كبيرة ومرات كثيرة، ركضت فيها كيلومترات، حصلت على كيس دقيق بوزن 25 كيلوغراما، حملته على ظهري بالرغم أن وزني يبلغ 45 كيلو بسبب شدة الجوع».
ويتابع «أذكر هذه الليلة جيداً.. كان قلبي يخفق بشدة من الفرح، فأنا عائد إلى أبنائي بدقيق يشبعهم، وعندما وصلت أيقظتهم وأخبرتهم أني جلبت الدقيق في تلك اللحظة.. عانقوني بامتنان وكأني قد غبت عنهم لسنوات سفر. هذا الكيس سندنا أيام، وسند أحباءنا. فقد أرسلت منه هدايا لوالدي وأشقائي وشقيقات زوجتي، فكيلو الدقيق برغم بساطته إلا أنه رسالة حب في زمن المجاعة».
وآخر ذهب ولم يعد
وأبو المجد، الذي اتبع سلوكاً لا يعدّه سلوكه الأخلاقي الذي نشأ عليه، سلكه أحمد أبو سيف أيضاً.. وكأن القدر سخّر له أن في مكان تعطل شاحنة مساعدات قرب الصالة الذهبية شمالي قطاع غزة.
فقد ذهب إلى بيت عمه ليتفقده ولجلب بعض الحطب لوالدته لتطهو لهم بعض العدس الأصفر قوتا ليومهم. وعندما شاهد أحمد فوضى سرقة الدقيق توجه ليحصل على كيس دقيق يعود به لعائلته المكونة من 11 فرداً؛ ولكنه ذهب ولم يعد.
عصابات مرتبطة به… وجائعون… وشهود أمميون عاجزون
ويقول إبراهيم أبو سيف (32عاماً) «اختفى شقيقي أحمد (20 عاماً) بالقرب من الصالة الذهبية شمالي قطاع غزة حيث ذهب لتفقد بيت عمي ولجلب بعض الحطب. في ذلك الوقت كان توجد بالقرب من الصالة الذهبية شاحنة مساعدات معطلة، وبالفعل توجه لجلب كيس دقيق، وشاهد هناك الهجمات من طائرات الاحتلال ومن الزوارق ومن مسيرات «الكواد كابتر» والدبابات، ومع اشتداد القصف وإطلاق النيران هرب صديق أحمد دون طحين، وبقي أحمد هنا».
وأضاف إبراهيم: “نحن لا نعرف مصير أخي، فنحن لا نستطيع الوصول إلى المكان، والصليب الأحمر ذهب إلى هناك، وجلب عدداً من الشهداء، ولم يكن شقيقي ضمن الشهداء. قد يكون اعتقل، وقد يكون ضمن الشهداء الذين أبلغنا الصليب أن جيش الاحتلال قد دفنهم بالدقيق أسفل الشاحنة المتعطلة. لسنا متأكدين من مصيره ونتوقع بنسبة 80% أن يكون من ضمن الشهداء، ولكن ندعو الله أن يكون على قيد الحياة».
وذكر أبو سيف أن والدته التي تبكي ابنها ليلاً ونهارً لا تزال تأمل في أن يكون على قيد الحياة، مشيرةً إلى أن شقيقه اختفى ولم يكن قد تناول الخبز منذ نحو 15 يوماً، فـ»عائلتي تقتات على الطعام الذي توفره التكيات».
وناشد الجهات المعنية أن تبادر إلى جلب الشهداء من أسفل الشاحنة.
رئيس جمعية النقل لـ«القدس العربي»: مندوبو برنامج الأغذية العالمي يقولون إن ليس بوسعهم فعل شيء
وتعيش الكثير من الأسر الفلسطينية مأساة الفقد، في محاولات جلب الدقيق وبعض البقوليات من شاحنات المساعدات في حالة فوضى مطلقة.
ويقول محمد النجار (30 عاماً) لـ»القدس العربي»: «والدي اسمه زايد محمد النجار، عمره 60 عاما. وبتاريخ 29/6/2025 توجه إلى شاحنات المساعدات لجلب الطعام. لقد توجه للمساعدات برفقتي أنا وشقيقي وعمي.. وكانت هناك فوضى كبيرة، وتاه والدي عنا.. وعند الساعة الثانية فجراً اتصل بنا وأخبرنا أن معه كيسين أرز بوزن 5 كيلو غرام، وكيس عدس، وأنه لا يعلم أين هو تحديداً. في ذلك الوقت أخبرناه بأن لا يتحرك خوفاً من أن يذهب باتجاه الموقع العسكري لجيش الاحتلال، وبالفعل انتظر حتّى الساعة السادسة صباحاً، ثم استهدفه جيش الاحتلال بقذيفة وأصيب.. وكنا على اتصال معه.. وعند الساعة الثامنة صباحاً أخبرنا أنه موجود بالقرب من مستشفى الصداقة التركي جنوبي حي الزيتون، وكان ينزف نتيجة الإصابات التي تعرض لها من القذيفة، وبعد ذلك انقطع الاتصال معه «.
وذكر النجار أنه ذهب برفقة أشقائه للبحث عن والدهم بالقرب من مستشفى الصداقة التركي، ولكنهم لم يستطيعوا التقدم، وذلك بسبب وجود جنود جيش الاحتلال، مشيراً إلى أنهم أكدوا لوالدهم ضرورة عدم ترك أكياس الغذاء من يديه حتى يراها جنود الاحتلال ليعلموا أنه مدني ذهب لجلب الطعام.. و»مع ذلك تم استهدافه».
وأضاف أنه تواصل مع «الهلال الأحمر» و»الصليب الأحمر»، مع ذلك لم يتمكنوا من الوصول لمكان استهداف والده، الذي انقطع الاتصال به، وبقي مصيره مجهولاً إن كان تم اعتقال أو بقي ينزف حتى الموت.
أخطار نقل المساعدات
ولا يقف الاحتلال عند حدود، في استهدافه للمساعدات وجعل نقلها عملية غير آمنة، وشديدة الخطورة.
الأسوأ من ذلك أن موظفي الوكالات الأممية، يقفون عاجزين عن فعل شيء.
يقول ناهض شحيبر، رئيس «جمعية النقل الخاص»، لـ»القدس العربي»: «من الصعب تحديد عدد المرات التي تتعرض فيها شاحنات النقل للمضايقات.. فمنذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ونحن نتعرض لإطلاق النار، واعتقل 12 سائقًا من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقتل منا 4 سائقين، ونعاني من إطلاق النار من عصابة ياسر أبو شباب منذ شهر أيار / مايو من العام الماضي، وهم يعتدون على السائقين ويطلقون النار عليهم ويسرقون المساعدات بدعم من جيش الاحتلال.. ونحن نعاني من الكثير من المشاكل مع المدنيين الذين يشاهدون المواد الغذائية موجودة على الشاحنات، فلا يصبرون على وصول الشاحنات لمراكز التوزيع لتوزع بشكل عادل ذلك نتيجة التجويع».
عصابة «أبو مغاصيب»
وأضاف شحيبر «في المنطقة الوسطى لا نستطيع دخول منطقة أبو العجين بسبب عصابة أبو مغاصيب التي تعمل تحت يد عصابة أبو شباب، وهم أطلقوا النار على السائقين، والآن بعد التوجه لإدخال الشاحنات من شكال قطاع غزة أيضاً نواجه هجمات من المدنيين بسبب التجويع».
ووجه شحيبر انتقادات إلى برنامج الأغذية العالمي.
وقال: «بعد تأمين الشاحنات، ونؤكد على (سائقي) الشاحنات أن تصل المساعدات إلى المخازن، يقف مندوب «برنامج الأغذية العالمي» في أماكن معينة يوجد بها تجمع المدنيين، ويخبرهم عبر مكبرات الصوت «تعالوا خذوا بضاعة». ويقول شحيبر إنه بعد مراجعة «برنامج الأغذية العالمي»، بشأن هذا السلوك، كان الجواب منهم (هذا ليس عملكم. الإسرائيليون يردون ذلك، الاحتلال لا يريد توزيعًا محترمًا أو عادلا للجميع، إنما يريد التوزيع الذاتي، ويريدون أن يقوم الناس بالهجوم على الشاحنات للحصول على المساعدات».
وعقّب على سرقة المساعدات بالإشارة إلى أن 90% من سان القطاع لا يتوجهون لسرقة المساعدات، ولكن «فئة قليلة اعتمدت على السرقة للاكتفاء بها من الطعام، ومن ثم بيع ما يفيض لديهم في الأسواق بأسعار باهظة».
ويؤكد أن ما يدخل من المساعدات لا يكفي الكم الهائل من الناس.