مع الإعلان الرسمي عن نتائج التعداد السكاني في العراق، يزداد القلق بشأن قدرة البلاد على مواجهة النمو الديموغرافي السريع، خاصة مع اقتراب عدد السكان من عتبة الـ50 مليون نسمة، وهو رقم يمثل ضغطاً مباشراً على الاقتصاد والخدمات وفرص العمل والسكن.
وكشف التعداد الذي أُجري لأول مرة منذ 37 عاماً يومي 20 و21 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عن بلوغ عدد السكان 46,118,793 نسمة من العراقيين وغير العراقيين، بينهم 45,778,662 عراقياً، فيما بلغ عدد الأسر 8,054,385 أسرة، في وقت وصف فيه وزير التخطيط محمد تميم المجتمع العراقي بأنه “شاب وواعد”.
وتشير البيانات إلى أن 60% من السكان ضمن الشريحة العمرية بين 15 و45 عاماً، وهي كتلة بشرية ضخمة تمثل في الوقت نفسه فرصة وتنمية وتحدياً ضاغطاً على سوق العمل والخدمات.
ورغم ما يحمله هذا النمو من إمكانات بشرية واقتصادية هائلة، إلا أنه يأتي في سياق اقتصادي يعاني من اختلالات هيكلية وضعف إنتاجي واعتماد كبير على القطاع العام.
فالتعداد لم يكشف حجم السكان فقط، بل قدم أول صورة مركزية دقيقة عن التوزيع العمري والجغرافي والسكني ومستوى الخدمات، ما يضع ملف التخطيط الاستراتيجي في قلب النقاش الوطني.
معطيات وتحديات
وفي هذا السياق يوضح المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي، أن أحد أهم أهداف التعداد العام للسكان هو “تشخيص الواقع بكل مشكلاته وتحدياته، ورسم صورة واضحة تتضمن الفجوات التنموية التي تعاني منها البلاد”.
ويشير الهنداوي إلى أن نتائج التعداد “جعلت الصورة أكثر وضوحاً من حيث عدد السكان، وتوزيع الذكور والإناث والفئات العمرية وواقع الريف والحضر والتكتلات السكانية والسكن والمساكن، إضافة إلى تفاصيل شاملة حول الخدمات”.
ويؤكد المتحدث أن هذا الكم من البيانات “سيساعد في رسم السياسات وتوجيه الخطط والمشاريع بشكل دقيق نحو معالجة المشكلات التي تطوق المشهد العراقي”، حيث إن التخطيط اليوم بات يستند إلى معطيات ميدانية غير مسبوقة من حيث الدقة والتفصيل.
إدارة أم موارد؟
من جانبه، يرى عضو لجنة التخطيط في البرلمان السابق والفائز حالياً في دورته السادسة محمد البلداوي أن معطيات التعداد تؤكد أن العراق “ضمن الدول البشرية” التي تشكل فيها الفئات الشابة الغالبية، وهو ما يعد “فرصة كبيرة إذا ما أُحسن استثمارها، وتحدياً ثقيلاً إذا غابت الإدارة والتنظيم”.
ويضيف البلداوي أن العالم يبحث اليوم عن “الفئات العمرية القادرة على العمل والعطاء”، ما يعني أن العراق يمتلك “هبة بشرية واقتصادية” يجب تحويلها إلى إنتاج، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن “المشكلة الحقيقية تكمن في الإدارة والتنظيم وليس في الموارد”.
ويشير إلى أن العراق يمتلك تنوعاً واسعاً في موارده النفطية والزراعية والصناعية والتجارية، إلا أن الاستفادة منها ما تزال محدودة بسبب غياب التخطيط الفعال، قائلاً: “لدينا إمكانيات هائلة، لكننا نفتقر إلى عملية تنظيم هذه الموارد وتوجيهها بالاتجاه الصحيح”.
وفي ما يتعلق بملف السكن، يرى البلداوي أن غياب التنظيم خلق صورة مشوشة: “لا توجد مشكلة حقيقية في السكن من حيث القدرة الشرائية؛ فمتوسط سعر الوحدة السكنية من 100 إلى 150 مليون دينار، بينما الوحدات الحديثة تصل إلى 250 مليون، ما يعكس ارتفاع السقف المعيشي للمواطن”.
كما يلفت إلى أن “القطاع الخاص يوفر أجوراً يومية الحد الأدنى منها 500 ألف دينار، وهو ما يعادل راتبين من عقود الدولة”، لكنه يشدد على أن “هذه الإمكانيات تعمل بطريقة عشوائية وغير منظمة”.
ويتابع البلداوي: “لدينا خطط خمسية أُعدت بالتعاون مع وزارة التخطيط، لكن المشكلة الحقيقية كانت وما تزال في الإدارة”، مؤكداً ضرورة وضع “استراتيجية شاملة لإدارة الموارد وتنظيمها بما يضمن النهوض بالبلاد”.
التعداد السكاني يكشف أزمة مصيرية
ويحذر وزير التخطيط العراقي السابق نوري الدليمي، من تداعيات النمو السكاني المتسارع في العراق، الذي يقترب من 50 مليون نسمة.
ويقول الدليمي إن استمرار إدارة الملف السكاني بالأساليب التقليدية سيضاعف معدلات البطالة ويزيد الضغوط على السكن والخدمات الأساسية.
وأكد على ضرورة تخطيط قائم على بيانات دقيقة، وإعادة توجيه الإنفاق الحكومي نحو مشاريع إسكانية وبنية تحتية وتنمية القطاعات الاقتصادية لاستيعاب القوى العاملة، مع الاستثمار في الشباب لتحويل النمو السكاني إلى قوة اقتصادية مستدامة.
هشاشة النمو
من جهته يرى الخبير الاقتصادي أحمد عبد ربه أن التعداد كشف عن “نمو سكاني ملحوظ يضع العراق على عتبة الـ50 مليون نسمة”، وهو رقم لا يمثل مجرد مؤشر ديموغرافي، بل “عامل ضغط مباشر على الاقتصاد والخدمات وفرص العمل والسكن”.
ويؤكد عبد ربه أن الخطر لا يكمن في النمو بحد ذاته، بل في “سوء إدارة هذا النمو”، خصوصاً أن سوق العمل غير قادر على استيعاب دخول مئات الآلاف من الشباب سنوياً، مع استمرار محدودية الإنتاج الحقيقي واعتماد التوظيف الحكومي كحل سهل.
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن بطالة الشباب وتوسع الاقتصاد غير الرسمي يمثلان “بيئة خصبة للاضطرابات الاجتماعية والهجرة غير الشرعية”.
وفي ملف السكن، يحذر عبد ربه من “قنبلة مؤجلة”، فارتفاع أسعار الأراضي وضعف التمويل العقاري وتوسع العشوائيات كلها مؤشرات تنذر بـ”تحول المشكلة السكنية إلى أزمة اقتصادية ذات أبعاد أمنية”.
أما الخدمات الأساسية – من كهرباء ومياه وصرف صحي وصحة وتعليم – فهي “تواجه ضغوطاً تفوق طاقتها مع تمركز النمو السكاني في المدن الكبرى”، ما يزيد كلفة الخدمات ويعيق التخطيط بعيد المدى، بحسب عبد ربه.
ويضيف أن النظام المصرفي، رغم محاولات إصلاحه، ما يزال “عاجزاً عن دعم النمو وتمويل الإسكان والمشاريع الصغيرة والمتوسطة”، ما يبقي الاقتصاد “أسير الإنفاق الحكومي الريعي”.
ويؤكد أن مواجهة التحديات تحتاج إلى “انتقال حقيقي من اقتصاد استهلاكي معتمد على الدولة إلى اقتصاد منتج يقوده القطاع الخاص”، كما يجب أن تكون الإصلاحات “متوازية ومتزامنة” تشمل سياسة إسكان واقعية وممولة بآليات عقارية حديثة وبرامج تشغيل وتدريب تستهدف الشباب وتحديث البنى التحتية وتنويع الإنتاج بعيداً عن النفط.
وخلص عبد ربه إلى القول إن “تحويل النمو السكاني من عبء إلى فرصة يتطلب إرادة سياسية وإدارة كفوءة، قبل أي شيء آخر”.